ضعف الحياة السياسية بين الحاضر والمستقبل
الدكتور عادل عامر
إن تجارب الأنظمة السياسية الفاشية والشمولية، أعطت مردودات ايجابية على الأنظمة الديمقراطية الليبرالية التقليدية التي بحكم اعتمادها علي الفلسفة التجريبية، كما اشرنا، على النقيض من الفلسفة الهيغلية الديالكتيكية بشقيها الرومانسي المثالي (Romanticism Idealism) والمادي الماركسي، قد طورت نفسها بعد تشخيص مواطن النقص والخلل في التجربة الديمقراطية التقليدية وهي (المغالاة في تطبيق المذهب الفردي).
لقد شاعت المفاهيم الحديثة للمذهب الاجتماعي الذي أخذت به الديمقراطية الحديثة وانتشرت في الدول الأوربية والاسكندنافية بأسم (الديمقراطية الاشتراكية) (Social Democracy) التي من شأنها ضمان الحد الأدنى للعيش لجميع العاطلين عن العمل باعتباره حقا مشروعا للإنسان.
واستطاعت الديمقراطية الاشتراكية بحكم اعتمادها علي الفلسفة التجريبية (العقلانية والسببية) إن تتكيف وفق معطيات التجارب العملية ومرونتها في المناقشات وقبولها الحلول الوسط لما فيه تحقيق الحرية وحقوق الإنسان والمنفعة، وان تكون ملائمة لجميع البشر بمختلف درجاتهم الطبقية ومختلف انتماءاتهم السياسية والاجتماعية والفكرية وصالحة لجميع المجتمعات صناعية أم زراعية، وبالتالي فأنها اكتسحت جميع الأنظمة الأخرى الفاشية والشمولية كما اكتسحت من قبلها الأنظمة الدينية (الثيوقراطية) التي جاءت لهدر القيم الإنسانية.
اما السلطة السياسية في الفكر الإسلامي، فقد اتصفت بصفتين أساسيتين منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولحد الآن، الأولى في عدم الفصل بين الدين والدولة اما الثانية فتتمثل في إعلاء قيمة القوة والتأكيد على ارتباط السلطة بالقوة خصوصا بالمراحل التي تلت الدولة الراشدية حيث أصبح الحكم يتأسس عن طريق القوة أو عن طريق الوراثة.
واخيرا يمكن القول، انه في اغلب الأحيان، لا تتحقق السلطة بدون القوة، فمن مستلزمات السلطة هي امتلاك أجهزة القهر والسيطرة، إلا إن على السلطة السياسية إن تستخدم هذه القوة ضمن نظام ديمقراطي ليبرالي حديث، لبسط المساواة والعدل والحريات للمواطنين دون تمييز وان تكون الحارس لهذه القيم حتى لا ينفرط التلاحم الاجتماعي وتعم الفوضى وتنهدر كرامة الإنسان. أراد هذا التاريخ أن يجري عملية زحزحة ذاتية للتحول من تاريخية السؤال - المأزومة أصلاً - إلي تاريخية الإجابة.. لكن إلى أية إجابات ؟ إنها الأزمة بعينها !! لتنتهي الإجابات السجالية والمتناقضة والمشاريعية والشعارية والأيديولوجية إلي وحدت الثنائيات الضدية التي أفرزتها الحداثة الغربية لتكتسب حمولة سلبية في الفكر العربي ، لتعميق مأزق المشروع النهضوي العربي والإسلامي .. وتجذره ميتافيزيقيا .. وتؤبد انفعالاته وفناءه في أطنابها من خلال أبعاد تبدو جديدة لكنها تحكي ذات الجسد الثقافي والاجتماعي والسيا سي الذي تمسك به روح الإيمان والكفر والتراث والمعاصرة ، والبداوة والحضارة ، والنقاوة والعجمية ... الخ.
تحديات النهضة والحداثة
يبدو أن العرب والمسلمين اطلعوا بشكل لا بأس به - خاصة النخب الفاعلة - على المعارف الإحداثية واكتسبوا معارف نظرية، وأخرى تقنية وعملية كان يمكن أن تمهد لعملية التحديث والتقدم في العالم العربي والإسلامي.. إلا إن غياب الذات الحضارية التاريخية الفاعلة التي بوسعها أن تصوغ إجابات فاعلة وناجعة علي تحديات العصر القاتلة ، أدت إلى الدور الأخطر في هذا الفشل الذي نعانيه حتى الآن .. لكن ليس ثمة من خيار إما الإجابة التاريخية علي تحديات النهضة والحداثة أو الموت التاريخي !! لذلك فإن مهمة العرب والمسلمين المعاصرة ، تتجلي في توفير كل أسباب وعوامل إنجاز مقولة الذات التاريخية المجتمعية الفاعلة . فهي وحدها التي تخرجنا من عالم السلب والهامشية وتضعنا في قلب الأحداث والعمليات التاريخية الكبرى.
لكن كيف يتم خلق هذه الذات وإنعاشها ؟ .. فمؤشرات صيرورتنا الفكرية والاجتماعية والسياسية ليست ذات قابلية تراكمية تصاعدية تواصلية.. بمعني أن هذه الصيرورة حتى في تاريخنا المعاصر والماضي ليست خياراً إنسانياً يستثمر العقل والخبرة البشرية في تحقيق تراكمات وظيفية ناهضة بقدر ما هي صيرورات صنيعة بلا لاهوتية نهائية - لا تاريخية - ، ليست من مهماتها التراكم والإضافة بل التشذيب والتذويب حتى بلوغ نقطة الصفر البدائية ، من خلال إشغالاتها السجالية غير المنتجة التي لا تكتفي بإقصاء الآخر في حرب الكلمات ، بل لتصول السيوف جولة رهيبة في سجاها القاني .
فلبناء الذات التاريخية الفاعلة اشتراطات التغيير لزحزحة المفاهيم الإرتكازية وإمدادها بالنبض المتشوف إلى المستقبل والذي لا يشتغل إلا في الإطار الحضاري التاريخي .. ولبدئها أهمية الإصلاح الديني برغم ما يكتنف مصطلح (الإصلاح الديني) من غموض يماه بينه وبين أفكار المقدس وأنسنة الدين - كأحد أسلحة الأصوليين في محاربة الحداثة - في الوقت الذي يعد فيه الإصلاح الديني شرطاً حضارياً للانتقال إلى النهضة ومن ثم إلى الحداثة يبنى على أساس إعادة قراءة الفكر الديني وتراثه وتجديد تفسيره وتأويله بقراءة منفتحة بعين العصر وبالأدوات المعرفية الجديدة التي تقدمها العلوم .. وفق منطلقات العصر، تطور انطلاقا من الدين ثقافة حافزة علي التجديد والتطوير والتحديث كما حصل في أوربا نفسها.. إن هذه القراءة العصرية لا تحدث ما لم نجنح إلي المثقفة.. أي التعامل مع الآخر حضارياً من خلال تلاحق الثقافات وتأصيل المشتركات الحضارية الإنسانية وذلك لا يتم إلا بدمج الخصوصيات وتفعيلها في الثقافة العالمية الإنسانية التي تلتقي وتعطي مثلما تأخذ .. لإعادة تشكيل الوعي العربي وكسر قوالب الأحادية المهيمنة علي أجنداته بغية القبول بالاختلافات العقائدية والسياسية وتبني الحوار مع الآخر والعمل ضمن إطار الليبرالية السياسية ، والتناغم مع الفهم الحضاري لمفهوماته الإشتغالية والتحرر من الفهم الحدسي والعاطفي واللاهوتي .
التغيير بين حضارتين
إن رفض الآخر كان سمة التقاء الغرب بالعرب في العصر الحديث من خلال غزوة نابليون بونابرت عام 1798 م .. لأن طبيعة اللقاء كانت إشكالية .. لما تنطوي عليه من لحظة عنيفة قاسية .. أدهشت العرب وأبهرتهم .. لكنها مع ذلك كانت بداية التسويغ لما كانوا قائمين عليه من طرق حياة ودولة .. وقد عبر عن ذلك المؤرخ المصري الجبرتي في كتابه (مظهر التقديس في زوال دولة الفرنسيس) .. ليكون ذلك ممثلاّ لوجهة نظر مجاليه بشكل عام. بيد أن تطوراً ما حصل في هذه النظرة من خلال الجيل التالي والذي تهيأت له ظروف أخري مثل حركة التحديث التي قام بها محمد علي في مصر وعلى النمط الغربي .. فضلاً على البعثات التي ذهبت إلى الغرب وعرفته عن قرب ورويّة .. مثل رحلة الشيخ الطنطاوي إلى فرنسا حيث يقول : (فالحياة الغربية بخلاف الحياة الإسلامية تطويرية دينامكية ، قائمة على مبدأ التغيير والتجديد) ، لذلك دعا الطهطاوي إلي فتح باب (الانتقائية الإزائية) حسب وصف نديم نعيمة ، أي عندما يحصل الانتقاء من الحداثة الوافدة كما تجسدها المدنية الغربية ، فإن حصل استحسان لهذا الانتقاء في ظل التأخر الذي يطبق علي المجتمعات الإسلامية .. ما يمكن عندها أن يؤصل في هذا المجتمع شريطة أن يستقيم مع الإسلام والمجتمع الإسلامي.. وبخلافه فالإسلام بريء من هذا الوافد .. في ظل طروحات نقدية وسطية (والمقصود بالنقد بهذا المعني ليس إلغاء المنقود أو تسويغ قبوله ، بل كونه موضوعاً للنقد قابلاً في ضوء النقيض أن يسقط منه وأن يضاف إليه) .
ثم جاء الجيل الثالث ممثلاً بالمفكر الكبير جمال الدين الأفغاني وتلميذه النجيب الشيخ محمد عبده ، ليقدما مساهمة نقدية لإصلاح الفكر الديني الإسلامي من خلال ثورة ثقافية في مجال فهم الدين علي أساس مواجهة معضلة العلاقة بين حضارتين علي أرض الواقع ، الأولى: تتمثل في الحضارة الإسلامية والقائمة على الإيمان بالغيب .
والثانية: تتمثل بالحضارة الغربية الوافدة والتي قوامها الإنسان وعقله.
وقد اجتهد المفكران الكبيران في طرح حلٍ تصالحي وسطي.. أي بناء معادلة فكرية يتصالح فيها العقل والإيمان، وفق مقولة محمد عبده المعروفة: (إن الإسلام دين العقل والعلم والمدنية).. لكن هذا الحل التصالحي لم يؤدِ إلي نتيجة كبيرة .. بسبب عجز الفكر العربي الإسلامي عن فهم أو تطوير المعادلة والعلاقة وكيفية التعامل معها !! .. لأن المعادلة الحقيقية للعلاقة بين الغرب والشرق هي بحسب هذا المفهوم التصالحي والذي مازال نافذاً فينا يقوم على أساس العلاقة بين حركية وتاريخ ونسبية ومدنية الغرب .. وبين دين وعقيدة إسلامية ثابتة (قرآنية مثالية مطلقة) يدإن تصحيح المعادلة يتطلب فهماً جديداً يقوم على أساس المواجهة بين تاريخين وحركتين نسبيتين ومدنيتين.. حتى إذا انبثق عن هذه المواجهة الجدلية وهذا التلاحق جديد ثالث فأسقط بموجبه شيء أو آخر من المدنية الإسلامية أو عدل أو أضيف ، كما هو محتم أن يحصل ، لم يكن ذلك تعديلاً في الإسلام كمطلق أو إسقاطاً منه أو إضافة إليه ، وحتى إذا اقتضي الأمر ، كما هو محتم أيضاً أن يقتضي ، قبول شيء أو آخر من المدنية الغربية الحديثة أو رفضه لم يكن ذلك قبولاً باسم الإسلام أو رفضاً بحجته ثم واصل هذا التيار الإصلاحي النقدي مهماته علي عبد الرحمن الكواكبي ، وعلي عبد الرازق صاحب كتاب (الإسلام وأصول الحكم) .. ليعلن عن تحرير السياسة من هيمنة الدين عندما ينفي وجوداً لمبادئ سياسية في الإسلام.. حيث عد الإسلام.. (بريئا من تلك الخلافة التي يتعارفها المسلمون) .. لأن الخلافة التي تمثل نظام الحكم في العصور التي تسمي إسلامية كانت (نكبة علي الإسلام والمسلمين وينبوع شر وفساد).. ومن المتوقع أن تكون كذلك في هذا العصر ، لكن محاولته هذه جوبهت بردة فعل قاسية تبناها زميله محمد رشيد رضا نتيجة الانقلاب الذي طرأ علي تفكير الشيخ محمد رضا في المرحلة الأخيرة من حياته ، والذي جعله يبتعد ، ابتعادا كلياً ، عن أفكار أستاذيه، الأمر الذي مهد للقطيعة بين تيار الإسلام السياسي الذي ثبّت إسلامية الخلافة وتخيير السياسة لحكم الدين والتأثر بأفكار ابن تيمية الذي يعد عراب الفكر السلفي في الإسلام ، وبين التيار الإصلاحي والذي كان متأثراً بالدرجة الأساس بالفكر الاعتزالي العقلي العدلي
أما طه حسين الذي بدأ كمجدد .. والذي شرع بتحرير الأدب والنقد الأدبي في البلاد العربية من سطوة الفكر الديني والأسطوري ، في كتابه عن الشعر الجاهلي ، فقد أنتهي إلي توسل منهج لدراسة الأدب - كظاهرة زمنية - بغية استخدامه للدخول في حقل العقيدة كظاهرة غير زمنية - وكذلك فعل هيكل عندما ربط القومية بالعقيدة ، مثلما فعل العقاد بربط الداروينية بالإسلام .. وهكذا تبقي محاولة العقاد العلمية في هذا السياق ، كما تبقي محاولة عبد الرازق السياسية وطه حسين الأدبية وهيكل القومية العقيدية ، خاوية من داخل فلا يمكن لأي فكر أصيل لاحق أن يركن إلي البناء عليها والانطلاق منها إلي آتٍ مقبل من غير الرجوع إلي إعادة النظر في أصولها ، والتأصيل من جديد كما يقول نديم نعيمة .. لأن هؤلاء المفكرين لم يوفقوا كثيراً في فهم العلاقة الإلتباسية والتي لا تزال تفعل فعلها في العقل العربي ألا وهي معادلة العلاقة بين الإسلام كعقيدة متعالية والإسلام كحضارة ومدنية وتاريخ .
تعليقات
إرسال تعليق